الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجــاب: أما كونه لم يتبين له كيفية الجن وماهياتهم، فهذا ليس فيه إلا إخباره بعدم علمه، لم ينكر وجودهم؛ إذ وجودهم ثابت بطرق كثيرة غير دلالة الكتاب والسنة، فإن من الناس من رآهم، وفيهم من رأى من رآهم، وثبت ذلك عنده بالخبر واليقين. ومن الناس من كلمهم وكلموه، ومن الناس من يأمرهم وينهاهم ويتصرف فيهم، وهذا يكون للصالحين وغير الصالحين، ولو ذكرت ما جرى لي ولأصحابي معهم لطال الخطاب. وكذلك ما جرى لغيرنا، لكن الاعتماد على الأجوبة العلمية يكون على ما يشترك الناس في علمه، لا يكون بما يختص بعلمه المجيب، إلا أن يكون الجواب لمن يصدقه فيما يخبر به.
/ فأجَـــاب: لا ريب أنهم مأمورون بأعمال زائدة على التصديق، ومنهيون عن أعمال غير التكذيب، فهم مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم، فإنهم ليسوا مماثلي الإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساويًا لما على الإنس في الحد، لكنهم مشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي، والتحليل والتحريم. وهذا ما لم أعلم فيه نزاعًا بين المسلمين. وكذلك لم يتنازعوا أن أهل الكفر والفسوق والعصيان منهم يستحقون لعذاب النار، كما يدخلها من الآدميين، لكن تنازعوا في أهل الإيمان منهم، فذهب الجمهور من أصحاب مالك والشافعى وأحمد وأبى يوسف ومحمد: إلى أنهم يدخلون الجنة. وروى في حديث رواه الطبراني:أنهم يكونون في رَبَضِ الجنة [رَبَض الجنة: أي ما حولها خارجا عنها]، يراهم الإنس من حيث لا يرونهم. / وذهب طائفةـ منهم أبو حنيفة فيما نقل عنه ـ إلى أن المطيعين منهم يصيرون ترابًا كالبهائم، ويكون ثوابهم النجاة من النار. وهل فيهم رسل أم ليس فيهم إلا نذر؟ على قولين: فقيل: فيهم رسل لقوله تعالى: وقيل: الرسل من الإنس، والجن فيهم النذر، وهذا أشهر، فإنه أخبر عنهم باتباع دين محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم وأما التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم، فدلائله كثيرة، مثل ما في مسلم عن عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، فانطلقوا) فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: (لكم كل عَظْم ذكر اسم اللّه عليه يقع في أيديكم، أوفر ما يكون، وكل بعرة علف لدوابكم)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تستنجوا بالعظم والروث) وذلك لئلا يفسد عليهم طعامهم وعلفهم، وهذا يبين أن ما أباح لهم من ذلك ما ذكر اسم اللّه عليه دون ما لم يذكر اسم اللّه عليه. / وقال تعالى: وأيضًا، فإبليس ـ الذي هو أبو الجن ـ لم تكن معصيته تكذيبًا؛ فإن اللَّه أمره بالسجود، وقد علم أن اللّه أمره، ولم يكن بينه وبين اللّه رسول يكذبه، ولما امتنع عن السجود لآدم عاقبه اللّه العقوبة البليغة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سَجَد ابنُ آدمَ اعتزل الشيطان يبكي) الحديث. وقد قال ـ تعالى ـ في قصة سليمان: ومن قال: [إن العبادة] هي المعرفة الفطرية الموجودة فيها، وأن ذلك هو الإيمان وهو داخل في الثقلين فقط، فإن ذلك لو كان كذلك لم يكن في الثقلين كافر، واللّه أخبر بكفر إبليس وغيره من الجن والإنس، وقد قال تعالى: / ولكن اللام لبيان الجملة الشرعية، المتعلقة بالإرادة الشرعية، كما في قوله تعالى: وقد تكون لبيان العاقبة الكونية كما في قوله: وأيضًا، فقوله تعالى: والدلائل الدالة على هذا الأصل، وما في الحديث والآثارـ من كون الجن يحجون ويصلون ويجاهدون، وأنهم يعاقبون على الذنب ـ كثيرة جدًا . وقد قال ـ تعالى ـ فيما أخبر عنهم: فأخبر أن منهم الصالحين، ومنهم دون الصالحين، فيكون: إما مطيعًا في ذلك فيكون مؤمنا، وإما عاصيًا في ذلك فيكون كافرًا، ولا ينقسم مؤمن إلى صالح وإلى غير صالح؛ فإن غير الصالح لا يعتقد صلاحه لترك الطاعات، فالصالح هو القائم بما وجب. /سُئِلَ ـ رَحِمِهَ اللَّهُ ـ عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن النطفة تكون أربعين يومًا نطفة، ثم أربعين يومًاعلقة، ثم أربعين مضغة، ثم يكون التصوير والتخطيط والتشكيل) ثم ورد عن حذيفة بن أسيد: (أنه إذا مر للنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث اللّه ـ تعالى ـ إليها ملكًا فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها، وعظامها، ثم يقول: يا رب، أذكر، أم أنثى ؟ شقي أم سعيد ؟ فما الرزق وما الأجل؟) وذكر الحديث، فما الجمع بين الحديثين؟ فأجَـــاب: الحمد للّه رب العالمين، أما الحديث الأول، فهو في الصحيحين عن عبد اللّه بن مسعود قال: حدثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ،حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، / فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ،حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) وفي طريق آخر: وفي رواية: (ثم يبعث اللّه ملكًا ويؤمر بأربع كلمات، ويقال: اكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أو سعيد. ثم ينفخ فيه الروح). فهذا الحديث الصحيح ليس فيه ذكر التصوير متى يكون، لكن فيه أن الملك يكتب رزقه وأجله، وعمله وشقي أو سعيد، قبل نفخ الروح وبعد أن يكون مضغة. وحديث أنس بن مالك الذي في الصحيح يوافق هذا وهو مرفوع قال: (إن اللّه عز وجل وكل بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد اللّه أن يقضي خلقها قال الملك: أي رب، ذكر أم أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ فما الرزق فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه). فبين في هذا أن الكتابة تكون بعد أن يكون مضغة. وأما حديث حذيفة بن أسيد، فهو من أفراد مسلم، ولفظه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث اللّه إليها ملكًا، فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها. ثم يقول: يا رب، أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يارب، رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك؛ ثم يقول: يا رب، أجله؟ فيقضي/ ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص). فهذا الحديث، فيه أن تصويرها بعد اثنتين وأربعين ليلة، وأنه بعد تصويرها وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها، يقول الملك: يا رب، أذكر أم أنثى؟ ومعلوم أنها لا تكون لحما وعظامًا حتى تكون مضغة، فهذا موافق لذلك الحديث في أن كتابة الملك تكون بعد ذلك، إلا أن يقال: المراد تقدير اللحم والعظام. وقد روى هذا الحديث بألفاظ فيها إجمال بعضها أبين من بعض، فمن ذلك ما رواه مسلم ـ أيضًا ـ عن حذيفة، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: (إن النطفة تكون في الرحم أربعين ليلة، ثم يَتَسَوَّرُ عليها الذي يخلِّقها فيقول: يا رب، أذكر، أم أنثى؟ فيجعله اللّه ذكرًا، أو أنثى. ثم يقول: يا رب، سوَىٌّ، أو غير سوَىٌّ ؟ فيجعله اللّه ـ تعالى ـ سويًا أو غير سوي ثم يقول: يا رب، ما أجله وخلقه؟ ثم يجعله اللّه شقيًا أو سعيدًا) [يَتَسَوَّرُ عليها، أي: ينزل عليها]. فهذا فيه بيان أن كتابة رزقه وأجله، وشقاوته وسعادته، بعد أن يجعله ذكرًا أو أنثى، وسويًا، أو غير سوي. وفي لفظ لمسلم قال: (يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة أو بخمس وأربعين ليلة. فيقول: يا رب، أشقي، أو سعيد ؟ فيكتب. يا رب، أذكر، أم أنثى ؟ فيكتب رزقه، ويكتب عمله، وأثره، وأجله، / ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص) فهذا اللفظ فيه تقديم كتابة السعادة والشقاوة، ولكن يشعر بأن ذلك يكتب بحيث مضت الأربعون. ولكن هذا اللفظ لم يحفظه رواته كما حفظ غيره. ولهذا شك: أبَعْدَ الأربعين، أو خمس وأربعين؟ وغيره إنما ذكر أربعين، أو اثنين وأربعين، وهو الصواب ؛ لأن من ذكر اثنين وأربعين ذكر طرفى الزمان، ومن قال: أربعين حذفهما، ومثل هذا كثير في ذكر الأوقات، فقدم المؤخر وأخر المقدم. أو يقال: إنه لم يذكر ذلك بحرف [ثم] فلا تقتضي ترتيبًا، وإنما قصد أن هذه الأشياء تكون بعد الأربعين. وحينئذ فيقال: أحد الأمرين لازم، إما أن تكون هذه الأمور عقيب الأربعين، ثم تكون عقب المائة والعشرين، ولا محذور في الكتابة مرتين، ويكون المكتوب أولا فيه كتابة الذكر والأنثى. أو يقال: إن ألفاظ هذا الحديث لم تضبط حق الضبط. ولهذا اختلفت رواته في ألفاظه، ولهذا أعرض البخاري عن روايته، وقد يكون أصل الحديث صحيحًا، ويقع في بعض ألفاظه اضطراب، فلا يصلح حينئذ أن يعارض بها ما ثبت في الحديث الصحيح المتفق عليه، الذي لم تختلف ألفاظه، بل قد صدقه غيره من الحديث الصحيح، فقد تلخص الجواب أن ما عارض الحديث المتفق عليه: إما أن يكون موافقًا له في الحقيقة، وإما أن يكون/ غير محفوظ، فلا معارضة، ولا ريب أن ألفاظه لم تضبط، كما تقدم ذكر الاختلاف فيها، وأقربها اللفظ الذي فيه تقدم التصوير على تقدير الأجل والعمل، و الشقاوة والسعادة، وغاية ما يقال فيه: إنه يقتضي أنه قد يخلق في الأربعين الثانية قبل دخوله في الأربعين الثالثة، وهذا لا يخالف الحديث الصحيح، ولا نعلم أنه باطل، بل قد ذكر النساء: أن الجنين يخلق بعد الأربعين، وأن الذكر يخلق قبل الأنثى. وهذا يقدم على قول من قال من الفقهاء: إن الجنين لا يخلق في أقل من واحد وثمانين يومًا، فإن هذا إنما بنوه على أن التخليق إنما يكون إذا صار مضغة، ولا يكون مضغة إلا بعد الثمانين، والتخليق ممكن قبل ذلك، وقد أخبر به من أخبر من النساء، ونفس العلقة يمكن تخليقها، واللّه أعلم، وصلى اللّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. / وأيضًا، فلو كان المراد ذلك لم يكن لقوله: (فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسَانه) معنى، فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها، فلا فرق بين التهويد والتنصير. ثم قال: فتمثيله صلى الله عليه وسلم بالبهيمة التي ولدت جَمَعاء، ثم جدعت: يبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه. ثم يقال: وقولكم: خلقوا خالين من المعرفة والإنكار، من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدًا منهما، بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان والكفر، وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر، فهذا قول فاسد جدًا. / فحينـئذ، لا فـرق بالنسبة إلى الفطـرة بين المعـرفة والإنكار، والتهويد والتنصير، والإسلام، وإنما ذلك بحسب الأسباب، فكان ينبغي أن يقال: فأبواه يسلمانه ويهودانه وينصرانه، فلما ذكر أن أبويه يكفرانه، وذكر الملل الفاسدة دون الإسلام، علم أن حكمه في حصول سبب مفصل غير حكم الكفر. ثم قال: ففي الجملة كل ما كان قابلًا للمدح والذم على السواء، لا يستحق مدحًا ولا ذمًا، واللّه تعالى يقول: وأيضًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق، وشبه ما يطرأ عليها من الكفر بجَدْع الأنف، ومعلوم أن كمالها محمود، ونقصها مذموم، فكيف تكون قبل النقص لا محمودة ولا مذمومة؟ واللّه أعلم. / فأجــاب: الحمد للّه؛ أما قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه): فالصواب أنها فطرة اللّه التي فطر الناس عليها، وهي فطرة الإسلام، وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال: فإن حقيقة الإسلام أن يستسلم للّه، لا لغيره، وهو معنى لا إله إلا اللّه، وقد ضرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال: (كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟): بين أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن، وأن العيب حادث طارئ. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن اللّه: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت /عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا)؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد ـ رضي اللّه عنه ـ في المشهور عنه: إلى أن الطفل متى مات أحد أبويه الكافرين حكم بإسلامه؛ لزوال الموجب للتغيير عن أصل الفطرة. وقد روى عنه، وعن ابن المبارك، وعنهما: أنهم قالوا: يولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة. وهذا القول لا ينافى الأول، فإن الطفل يولد سليما، وقد علم اللّه أنه سيكفر، فلابد أن يصير إلى ما سبق له في أم الكتاب، كما تولد البهيمة جمعاء، وقد علم اللّه أنها ستجدع. وهذا معنى ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الغلام الذي قتله الخضر: (طبع يوم طبع كافرًا، ولو ترك لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا) يعني: طبعه اللّه في أم الكتاب، أي: كتبه وأثبته كافرًا، أي أنه إن عاش كفر بالفعل. ولهذا لما سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عمن يموت من أطفال المشركين وهو صغير قال: (اللّه أعلم بما كانوا عاملين) أي: اللّه يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا، ثم إنه قد جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة فإن اللّه يمتحنهم ويبعث إليهم رسولًا في عَرْصَة القيامة، فمن أجابه أدخله الجنة ومن عصاه أدخله النار) فهنالك يظهر فيهم ما علمه اللّه سبحانه، ويجزيهم على ما ظهر من العلم وهو إيمانهم وكفرهم، لا على مجرد العلم. / وهذا أجود ما قيل في أطفال المشركين، وعليه تتنزل جميع الأحاديث . ومثل الفطرة مع الحق، مثل ضوء العين مع الشمس، وكل ذي عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس، والاعتقادات الباطلة العارضة من تهود وتنصر وتمجس، مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس، وكذلك أيضًا كل ذي حس سليم يحب الحلو، إلا أن يعرض في الطبيعة فساد يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مرًا. ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل، فإن اللّه أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، ولكن سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق، الذي هو الإسلام، بحيث لو ترك من غير مغير، لما كان إلا مسلمًا. وهذه القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع، هي فطرة اللّه التي فطر الناس عليها. وأما الحديث المذكور، فقد صح عن ابن مسعود أنه كان يقول: الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن مسعود قال: حدثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، / ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال:اكتب رزقه وأجله، وعمله وشقي أو سعيد. ثم ينفخ فيه الروح). وهذا عام في كل نفس منفوسة، قد علم اللّه ـ سبحانه بعلمه الذي هو صفة له ـ الشقي من عباده والسعيد، وكتب ـ سبحانه ـ ذلك في اللوح المحفوظ، ويأمر الملك أن يكتب حال كل مولود، ما بين خلق جسده ونفخ الروح فيه، إلى كتب أخرى يكتبها اللّه ليس هذا موضعها، ومن أنكر العلم القديم في ذلك فهو كافر. وأما البهائم فجميعها يحشرها اللّه ـ سبحانه ـ كما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: والأحاديث في ذلك مشهورة، فإن اللّه ـ عز وجل ـ يوم القيامة يحشر البهائم ويقتص لبعضها من بعض، ثم يقول لها: كوني ترابًا، فتصير ترابًا. فيقول الكافر حينئذ: / / قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ـ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: ذكر اللّه الحفظة الموكلين ببني آدم، الذين يحفظونهم ويكتبون أعمالهم، في مواضع من كتابه، قال تعالى: وقال تعالى: وقال تعالى: وقال تعالى: / هل الملائكة الموكلون بالعبد هم الموكلون دائما، أم كل يوم ينزل اللّه إليه ملكين غير أولئك ؟ وهل هو موكل بالعبد ملائكة بالليل وملائكة بالنهار؟ وقوله عز وجل: فأجَــابَ: الحمد للّه، الملائكة أصناف، منهم من هو موكل بالعبد دائمًا، ومنهم ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيسألهم ـ وهو أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون، ومنهم ملائكة فضل عن كتاب الناس يتبعون مجالس الذكر. وأعمال العباد تجمع جملة وتفصيلًا، فترفع أعمال الليل قبل أعمال النهار، وأعمال النهار قبل أعمال الليل، تعرض الأعمال على اللّه في كل يوم اثنين وخميس، فهذا كله مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وأما أنه كل يوم تبدل عليه الملكان، فهذا لم يبلغنا فيه شيء، واللّه أعلم. / فَأَجَــابَ: الحمد للّه، قد روى عن سفيان بن عيينة في جواب هذه المسألة قال: إنه إذا هم بحسنة شم الملك رائحة طيبة، وإذا هم بسيئة شم رائحة خبيثة. والتحقيق أن اللّه قادر أن يعلم الملائكة بما في نفس العبد كيف شاء، كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر على ما في الإنسان. فإذا كان بعض البشر قد يجعل اللّه له من الكشف ما يعلم به أحيانًا ما في قلب الإنسان ـ فالملك الموكل بالعبد أولى بأن يعرفه اللّه ذلك . وقد قيل في قوله تعالى: فالسيئة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الشيطان، علم بها الشيطان. والحسنة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الملك، علم بها الملك أيضًا ،بطريق الأولى، وإذا علم بها هذا الملك، أمكن علم الملائكة الحفظة لأعمال بني آدم. / فأجَــابَ: الحمد للّه رب العالمين، أما عرض الأديان على العبد وقت الموت فليس هو أمرًا عامًا لكل أحد، ولا هوـ أيضًا ـ منتفيًا عن كل أحد، بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته، ومنهم من لا تعرض عليه، وقد وقع ذلك لأقوام. وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا. منها: ما في الحديث الصحيح: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ في صلاتنا من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. ولكن وقت الموت أحرص ما يكون الشيطان على إغواء بني آدم؛ لأنه وقت الحاجة. / وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الأعمال بخواتيمها)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). ولهذا روى: [أن الشيطان أشد ما يكون على ابن آدم حين الموت، يقول لأعوانه: دونكم هذا، فإنه إن فاتكم لن تظفروا به أبدًا]. وحكاية عبد اللّه بن أحمد بن حنبل مع أبيه وهو يقول:لا، بعد، لا، بعد، مشهورة. ولهذا يقال: إن من لم يحج يخاف عليه من ذلك؛ لما روى أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ملك زادًا أو راحلة تبلغه إلى بيت اللّه الحرام ولم يحج، فَلْيَمُتْ إن شاء يهوديًا، وإن شاء نصرانيًا). قال اللّه تعالى: / وأما الفتنة في القبور فهي الامتحان والاختبار للميت، حين يسأله الملكان، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم [محمد]؟ فيثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول المؤمن: اللّه ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيى، ويقول: هو محمد رسول اللّه، جاءنا بالبينات والهدى، فآمنا به واتبعناه. فينتهرانه انتهارة شديدة ـ وهي آخر فتنة التي يفتن بها المؤمن ـ فيقولان له كما قالا أولا . وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبي هريرة وغيرهم ـ رضى اللّه عنهم ـ وهي عامة للمكلفين، إلا النبيين فقد اختلف فيهم. وكذلك اختلف في غير المكلفين، كالصبيان والمجانين، فقيل: لا يفتنون؛ لأن المحنة إنما تكون للمكلفين، وهذا قول القاضي وابن عَقِيل. وعلى هذا فلا يُلَقَّنون بعد الموت. وقيل: يلقنون ويفتنون أيضًا، و هذا قول أبي حكيم، وأبي الحسن بن عبدوس، ونقله عن أصحابه، وهو مطابق لقول من يقول: إنهم يكلفون يوم القيامة، كما هو قول أكثر أهل العلم، وأهل السنة، من أهل الحديث والكلام. وهو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري ـ رضي اللّه عنه ـ عن أهل السنة، واختاره، وهو مقتضى نصوص الإمام أحمد . وأما الردة عن الإسلام بأن يصير الرجل كافرًا مشركًا، أو كتابيًا ،/فإنه إذا مات على ذلك حبط عمله باتفاق العلماء، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع، كقوله: ولكن تنازعوا فيما إذا ارتد، ثم عاد إلى الإسلام هل تحبط الأعمال التي عملها قبل الردة أم لا تحبط إلا إذا مات مرتدًا؟ على قولين مشهورين، هما قولان في مذهب الإمام أحمد، والحبوط: مذهب أبي حنيفة ومالك. والوقوف: مذهب الشافعي . وتنازع الناس ـ أيضًا ـ في المرتد. هل يقال: كان له إيمان صحيح يحبط بالردة؟ أم يقال: بل بالردة تبيَّنا أن إيمانه كان فاسدا؟ وأن الإيمان الصحيح لا يزول البتة؟ على قولين لطوائف الناس، وعلى ذلك يبنى قول المستثنى: أنا مؤمن ـ إن شاء اللّه. هل يعود الاستثناء إلى كمال الإيمان ؟ أو يعود إلى الموافاة في المآل، واللّه أعلم.
|